فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)}
التفسير:
لما أخبر عن فتح الولي وهو النبي صلى الله عليه وسلم نبه على مآل حال العدو في الدارين.
قال ابن عباس: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] فصعد الصفا ونادى: يا آل غالب فخرجت إليه من المسجد. فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ فقال يا آل- كلاب ثم قال بعده: يا آل قصي فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فما عندك، ثم قال: إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين وأنتم الأقربون، إني لا أملك لكم من الدنيا حظًا ولا من الآخرة نصيبًا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد لكم بها عند ربكم. فقال أبو لهب عليه اللعنة: تبًا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة» وقيل: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع أعمامه وقدم إليهم طعامًا في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل الشاة فقال: كلوا فأكلوا فشبعوا ولم ينتقص من الطعام إلا قليل. ثم قالوا فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام. فقال أبو لهب ما قال» وروي أنه قال أبو لهب: «فما لي إن أسلمت؟ فقال: ما للمسلمين. فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وبماذا تفضل؟ فقال: تبًا لهذا الدين الذي يستوي فيه أنا وغيري فنزلت {تبت يدا أبي لهب}». التباب الهلاك كقوله: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [غافر: 37] وقيل: الخسران المفضي إلى الهلاك.
وقيل: الخيبة.
وقال ابن عباس: لأنه كان يدفع قائلًا إنه ساحر فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوى الشديدة فصار متهمًا فلم يقبل قوله في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فكأنه خاب سعيه وبطل غرضه.
قالوا: ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه فيقول: انصرف راشدًا فإنه مجنون. ويروى أنه أخذ حجرًا ليرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد ادمى عقيبة وقال: لا تطيعوه إنه كذاب. فقلت: من هذا؟ فقالوا: محمد وعمه أبو لهب.
وقال أهل المعاني: أراد باليدين الجملة كقوله: {ذلك بما قدّمت يداك} [الحج: 10] لأن أكثر الأعمال إنما تعمل باليد، فاليمين كالسلاح واليسار كالجنة، بالأولى يجر المنفعة وبالأخرى يدفع المضرة، وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما دعاه نهارًا فأبى ذهب إلى داره ليلًا مستنًا بسنة نوح ليدعوه ليلًا كما دعاه نهارًا، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرًا. فجلس النبي صلى الله عليه وسلم أمامه كالمحتاج وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: ن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت. فقال: لا أومن بك أو يؤمن هذا الجدي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للجدي. من أنا؟ فقال: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق لسانه يثني عليه فاستولى الحسد على أبي لهب وأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبًا لك أثر فيك السحر. فقال الجدي: بل تبت يدالك فنزلت السورة على وفق ذلك لتمزيقه يدي الحيوان الشاهد بالحق الناطق بالصدق. وفي ذكر أبي لهب بالكنية الدالة على التعظيم المنبئة عن شبهة الكذب إذ لم يكن له ولد مسمى بلهب وجوه منها: أن الكنية قد تصير اسمًا بالغلبة فلا تدل على التعظيم، وإيهام الكذب منتف لأنهم يريدون بها التفاؤل فلا يلزم منه أن يحصل له ولد يسمى بلهب. ومناه أن اسمه كان عبد العزي فكان الاحتراز عن ذكره أولى. ومنها أنه إشارة إلى أنه من أهل النار كما يقال (أبو الخير) لمن يلازمه. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه «يا أبا تراب» لتراب لصق بظهره.
وقيل: سمي بذلك لتلهب وجنتيه فسماه الله تعالى بذلك تهكمًا ورمزًا إلى مآل حاله وفي قوله: {سيصلى نارًا ذات لهب} قال أهل الخطابة: إنام لم يقل في أوّل هذه السورة (قل تبت) كما قال: {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] لئلا يشافه عمه بما يشتد غضبه رعاية للحرمة وتحقيقًا لقوله: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159] وأيضًا إن الكفار في تلك السورة طعنوا في الله فقال الله: يا محمد أجبهم عني {قل يا أيها الكافرون} [الكافرون: 1] وفي هذ السورة طعنوا في حق محمد صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى اسكت أنت فإنيّ أشتمهم {تبت يدا أبي لهب} وفيه تنبيه على أن الذي لا يشافه السفيه كان الله ذابًا عنه وناصرًا له.
يروى أن أبا بكر كان يؤذيه وأحد فبقي ساكتًا فجعل الرسول يذبه عنه ويزجر ذلك المؤذي فشرع أبو بكر في الجواب فسكت الرسول فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ فقال: لإنك حين كنت ساكتًا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.
قال أبو الليث: اللهب واللهب لغتان كالنهر والنهر ولكن الفتح أوجه، ولهذا قرأ به أكثر القراء. وأجمعوا في قوله: {ذات لهب} على الفتح رعاية للفاصلة. وفي دفع التكرار عن قوله: {وتب} وجوه منها: أن الأول دعاء والثاني إخبار ويؤيده قراءة ابن مسعود و{قد تب}، ومنها أن الأول إخبار عن هلاك عمله لأن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه باليد، والثاني إخبار عن هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم.
وقيل: الأول إهلاك ما له فقد يقال للمال ذات اليد، والآخر هلاك نفسه وهو قول أبي مسلم.
وقيل: الأول نفسه والثاني ولده عتبة على ما روي أن عتبة ابن أبي لهب خرج إلى الشام مع ناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم عتبة: بلغوا عني محمدًا أني كفرت بالنجم إذا هوى.
وروى أنه قال ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في جهه وكان مبالغًا في عداوته فقال: الله سلط عليه كلبًا من كلابك. فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز دائمًا فسار ليلة من الليالي إلى قريب من الصبح فقال له أصحابه: هلكت الركاب. فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب فأناح الإبل حوله كالسرادق فسلط الله الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه. فقوله: {تبت} قبل هذه الواقعة على عادة إخبار الله تعالى في جعل المستقبل كالماضي المحقق. والفرق بين المال والكسب من وجوه:
أحدها: أن المال عني به رأس المال والمكسوب هو الربح.
وثانيها: أراد الماشية والذي كسبه من نسلها وكان صاحب النعم والنتاج.
وثالثها:أريد ماله الموروث والذي كسبه بنفسه.
وعن ابن عباس: المكسوب الولد لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه».
روي أنه لما مات تركه أبناؤه ليلتين أو ثلاثًا حتى أنتن في بيته لعلة كانت به خافوا عدواها.
وقال الضحاك وقتادة: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة الرسول وسائر أعماله التي ظن أنه منها على شيء كقوله: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل} [الفرقان: 23] وفي قوله: {أغنى} بلفظ الماضي تأكيد وتحقيق على عادة إخبار الله تعالى وقد زاده تأكيدًا بقوله: {سيصلى نارًا ذات لهب} وطالما استدل به أهل السنة في وقوع تكليف ما لا يطاق قائلين إنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، ومما خبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفًا بأن يؤمن وبأن لا يؤمن وهو تكليف بالجمع بين النقيضين.
وأجيب بأنه كلف بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا بتصديقه وعدم تصديقه حتى يجتمع النقيضان، وغاية ذلك أنهم كلفوا بالإيمان بعد علمهم بأنهم لا يؤمنون وليس فيه إلا انتفاء فائدة التكليف، لأن فائدة التكليف بما علم الله لا يكون هو الابتلاء وإلزام الحجة وهذا لا يتصور بعد أن يعلم المكلف حاله من امتناع صدور الفعل عنه، والتكليف من غير فائدة جائز عندكم لأن أفعاله تعالى غير معللة بغرض وفائدة على معتقدكم. ثم إن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية كانت في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن المفسرين من قال: كانت تحمل الشوك والحطب وتلقيهما بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم، فلعلها مع كونها من بيت العز كانت خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب لتلقيه في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم من هؤلاء من زعم أن الحبل اشتد في جيدها فماتت بسبب الاختناق، فقوله: {في جيدها حبل من مسد} يحتمل على هذا أن يكون دعاء عليها وقد وقع كما أريد وكان معجزًا. ومنهم من قال: عيرها بذلك تشبيهًا لها بالحطابات وإيذاء لها ولزوجها.
وعن قتادة أنها كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر فعيرها بأنها كانت تحتطب. والأكثرون على أن المراد بقوله: {حمالة الحطب} أنها كانت تمشي بالنميمة يقال للنمام المفسد بين الناس إنه يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النائرة. ويقال للمكثار هو كحاطب ليل.
وقال أبو مسلم وسعيد بن جبير: أراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كان كالحطب في مصيره إلى النار نظيره {فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا} [الأحزاب: 58] {وليحملن أثقالهم} [العنكبوت: 13].
يروى عن أسماء «أنه لما نزلت السورة جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ومعه أبو بكر وهي تقول: مذممًا قلينا. ودينه أبينا. وحكمه عصينا فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك. فقال صلى الله عليه وسلم: إنها لا تراني وقرأ {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابًا مستورًا} [الإسراء: 45] فقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب الكعبة ما هجاك»
قالت العلماء: لعل أبا بكر عني بذلك أن الله تعالى قد هجاها ولم يهجها الرسول، أو اعتقد أن القرآن لا يسمى هجوًا. ثم إن أم جميل ولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.
قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل. يقال: مسد الحبل مسدًا إذا أجاد فتله. ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق. والمسد بالتحريك ما مسد أي فتل من أي شيء كان كالليف والخوص وجلود الإبل والحديد. وقد عرفت معنى قوله: {في جيدها حبل من مسد} على رأي بعض أهل التفسير.
وقال الآخرون: المعنى أن حالها تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها في المعنى عند النميمة، أو في الظاهر حين كانت تحمل الحزمة من الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيده حبل من سلاسل النار. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة تبت:
مكية.
وهي خمس آيات.
وثلاث وعشرون كلمة.
وسبعة وسبعون حرفًا.
{بسم الله} المتكبر الجبار المضل الهاد {الرحمن} الذي عمّ خلقه بنعمه بعد الإكرام بالإيجاد {الرحيم} الذي خص بتوفيقه أهل الوداد.
وقوله تعالى: {تبت يدا أبي لهب} دعاء عليه، وسبب نزول ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (الشعراء) صعد صلى الله عليه وسلم الصفا جعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا عنده، فجعل الرجل إذا لم يستطع أرسل رسولًا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدّقون؟ قالوا: بلى.
قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبا لك لهذا دعوتنا جميعًا فنزلت»
.
وفي رواية «أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل ونادى: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش» وذكر نحوه.
وفي رواية فصعد الصفا فهتف: «يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد فاجتمعوا إليه فقال صلى الله عليه وسلم أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقيّ؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًا لك أما جمعتنا إلا لهذا فنزلت».
وعن أبي زيد أنّ ابا لهب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم: «كما يعطى المسلمون» فقال ما لي عليهم فضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «وأيّ شيء تبتغي» قال: تبًا لهذا من دين أن أكون وهؤلاء سواء فنزلت. ومعنى تبت قال ابن عباس: خابت.
وقال قتادة: خسرت.
وقال عطاء: صلت.
وقال ابن جبير: هلكت والتباب الهلاك، ومنه قولهم: أشابة أم تابة، أي: هالكة من الهرم والتعجيز، والمعنى: هلكت يداه لأنه فيما يروى أخذ حجرًا ليرمي به النبيّ صلى الله عليه وسلم وقيل: رماه به فأدمى عقبه فلهذا ذكرت اليد وإن كان المراد جملة البدن فهو كقولهم: خسرت يده، وكسبت يده فأضيفت الأفعال إلى اليد، وذلك على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كله وجميعه، أو عبر باليدين لأنّ الغالب أنّ الأعمال تزاول بهما.
وقال يمان بن رباب: صفرت من كل خير حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أنه لما قتل عثمان سمع الناس هاتفًا يقول:
لقد خلوك وانصرفوا ** فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوافوا نذورهم ** فتبًا للذي صنعوا

وقيل: المراد باليدين دينه ودنياه، أو أولاه وعقباه، أو المراد بأحدهما جرّ المنفعة وبالأخرى دفع المضرّة، أو لأنّ اليمين سلاح واليسرى جنة. وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم واسمه عبد العزى..
فإن قيل: لماذا كني بذلك ولم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضًا فالتكنية من باب التعظيم؟
أجيب: عن الأوّل بأنّ الكنية قد تكون اسمًا كما سمي أبو سفيان وأبو طالب ونحو ذلك، فإنّ هؤلاء أسماؤهم كناهم، أو لتلهب وجنتيه وكان مشرق الوجه أحمره؟ وأجيب عن الثاني بوجوه:
أحدها: أنه لما كان اسمًا خرج عن إفادة التعظيم، ثانيها: أن اسمه، كان عبد العزى كما مرّ فعدل عنه إلى كنيته لقبح اسمه لأنّ الله تعالى لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم. ثالثها: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب، وافقت حاله كنيته فكان جديرًا بأن يذكر بها، كقولهم: أبو الخير وأبو الشر لصدورهما منه، أو لأنّ الكنية كانت أغلب من الاسم، أو لأنها أنقص منه، ولذلك ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم دون كناهم.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لما كناه والكنية تكرمة، ثم ذكر ثلاثة أجوبة إمّا لشهرته بكنيته، وإمّا لقبح اسمه كما تقدّم، وإمّا لأنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حالته كنيته اهـ. وهذا يقتضي أنّ الكنية أشرف من اللقب لا أنقص وهو عكس قول تقدّم.
وقرأ ابن كثير بإسكان الهاء، والباقون بفتحها وهما لغتان بمعنى نحو: النهر والنهر.
وقوله تعالى: {وتب} خبر كما يقال: أهلكه الله وقد هلك، فالأول: أخرج مخرج الدعاء عليه.
والثاني: أخرج مخرج الخبر فحقق به ما أريد من الإسناد إلى اليدين من الكناية عن الهلاك الذي لا بقاء بعده، وقيل: المراد ماله وملكه كما يقال فلان قليل ذات اليد يعنون به المال، وبالثاني نفسه.
ولما دعا صلى الله عليه وسلم أقربيه إلى الله تعالى وخوّفهم، قال أبو لهب: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فإني أفتدي نفسي بمالي وولدي فأنزل الله تعالى:
{ما أغنى عنه} أي: عن أبي لهب {ماله}، أي: الكثير الذي جرت العادة أنه منج من الهلاك، فإنه كان صاحب مواش كثيرة.
{وما كسب}، أي: من الولد والأصحاب والعز بعشيرته التي كان يؤذي بها النبيّ صلى الله عليه وسلم وكان ابنه عتبة شديد الأذى للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ سلط عليه كلبًا من كلابك» فكان أبو لهب يعرف أن هذه الدعوة لابد أن تدركه فسافر إلى الشأم فأوصى به الرفاق لينجوه من هذه الدعوة فكانوا يحدقون به إذا نام ليكون وسطهم والحمول محيطة به وهم محيطون بها، والركاب محيطة بهم، فلم ينفعهم بل جاء الأسد فتشمم الناس حتى وصل إليه فاقتلع رأسه. وإنما كان الولد من الكسب لقوله صلى الله عليه وسلم: «أطيب ما يأكل أحدكم من كسبه، وإنّ ولده من كسبه».
تنبيه:
ما في {ما أغنى} يجوز فيها النفي والاستفهام فعلى الاستفهام، تكون منصوبة المحل بما بعدها التقدير: أي شيء أغنى المال وقدم لكونه له صدر الكلام، ويجوز في ما في قوله تعالى: {وما كسب} أن تكون بمعنى الذي فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية، أي: وكسبه وأغنى بمعنى يغني. ثم أوعده سبحانه بالنار فقال تعالى: {سيصلى} أي: عن قريب بوعد لا خلف فيه {نارًا} يندس فيها وتنعطف عليه وتحيط به {ذات لهب}، أي: لا تسكن ولا تخمد أيدًا لأنّ ذلك مدلول الصحبة المعبر عنها بذات وذلك بعد موته.
ولما أخبر تعالى عنه بكمال التباب الذي هو نهاية الخسار زاده تحقيرًا بذكر من يصونها بأزرى صورة وأشنعها بقوله تعالى: {وامرأته} وهو عطف على ضمير يصلى سوغه الفصل بالمفعول وصفته، وهي أمّ جميل وهي أخت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، مثل زوجها في التباب والصليّ من غير أن يغني عنها شيء من مال ولا حسب ولا نسب، وعدل عن ذكرها لأنّ صفتها القباحة وهي ضدّ كنيتها.
قال البقاعي: ومن هنا يؤخذ كراهة التلقيب بناصر الدين ونحوها لمن ليس متصفًا بما دل عليه لقبه. وقوله تعالى: {حمالة الحطب} فيه وجهان:
أحدهما: هو حقيقة.
قال قتادة: وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدّة بخلها فعيرت بالبخل، وقال ابن زيد: كانت تحمل العضاه والشوك تلقيه في الليل في طريق النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير، وقال برّة الهمداني: كانت أمّ جميل تأتي في كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها في طريق المسلمين فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة عييت فقعدت على حجر تستريح فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.
الوجه الثاني: أنّ ذلك مجاز عن المشي بالتسمية ورمي الفتن بين الناس، ويقال للمشاء بين الناس بالنمائم المفسد بين الناس يحمل الحطب منهم، أي: يوقد بينهم ويثير الشر قال الشاعر:
من البيض لم تصطد على ظهر لأمة ** ولم تمش بين الناس بالحطب الرطب

جعله رطبًا ليدلّ على التدخين الذي هو زيادة في الشرّ.
وقال سعيد بن جبير: حمالة الخطايا من قولهم: فلان يحتطب على ظهره قال تعالى: {يحملون أوزارهم على ظهورهم} (الأنعام)
وقرأ عاصم بنصب التاء من حمالة على الشتم، قال الزمخشري: وأنا أستحب هذه القراءة، وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب شتم أمّ جميل اهـ. والباقون برفعها على أنها صفة امرأته فإنها مرفوعة باتفاق إما بالعطف على الضمير في سيصلى كما مرّ، ويكون قوله تعالى: {في جيدها حبل} حالًا من امرأته، أو على الابتداء ففي جيدها حبل هو الخبر وحبل فاعل به، ويجوز أن يكون في جيدها خبرًا مقدّمًا وحبل مبتدأ مؤخرًا، والجملة حالية أو خبر ثان. والجيد العنق ويجمع على أجياد.
وقوله تعالى: {من مسد} صفة لحبل والمسد ليف المقل، وقيل: الليف مطلقًا، وقال أبو عبيد: هو حبل يكون من صوف، وقال الحسن: هي حبال من شجر ينبت باليمن يسمى المسدد، وكانت تفتله.
وقال الضحاك وغيره: هذا في الدنيا وكانت تعير النبيّ صلى الله عليه وسلم بالفقر وهي تحتطب في حبل تجعله في جيدها من ليف فخنقها الله عز وجل به فأهلكها، وهو في الآخرة حبل من نار..
فإن قيل: إن كان ذلك حبلها فكيف يبقى في النار؟
أجيب: بأنّ الله تعالى قادر على تجدده كلما احترق كما يبقي اللحم والعظم أبدًا في النار.
وعن ابن عباس قال: هو سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا تدخل فيها وتخرج من أسفلها، ويلوي سائرها على عنقها.
وقال قتادة: هو قلادة من ودع.
وقال الحسن: إنما كان خرزًا في عنقها.
وقال سعيد بن المسيب: كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت: واللات والعزى لانفقنها في عداوة محمد، ويكون ذلك عذابًا في جيدها يوم القيامة.
وقيل: إنّ ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان لما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيده بحبل من مسد والمسد الفتل، يقال: مسد حبله يمسده مسدًا، أي: أجاد فتله والجمع أمساد. وروي أنها لما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر، وفي يدها فهر من حجارة تريد أن ترميه به فلما وقفت عليه أخذ الله تعالى بصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، والله إني لشاعرة:
مذمما عصينا ** وأمره أبينا

ودينه قلينا

ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله أما ترى ما رأتك قال صلى الله عليه وسلم: «ما رأتني لقد أخذ الله تعالى بصرها عني» وكانت قريش إنما تسمي محمدًا صلى الله عليه وسلم مذمما ثم يسبونه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «ألاتعجبوا لما صرف الله تعالى عني من أذى قريش يهجون مذممًا وأنا محمدًا». انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا الأذى ويحلم عليهم فينبغي لغيره أن يكون له به أسوة قال الله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب)
تنبيه:
احتج أهل السنة على تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان بتصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه أنه لا يؤمن من أهل النار، فإنه قد صار مكلفًا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه. وقد تضمنت هذه الآيات الأخبار عن الغيب بثلاثة أوجه:
أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسران وقد كان ذلك.
ثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده وقد كان ذلك.
ثالثها: الإخبار عنه بأنه من أهل النار وقد كان ذلك، لأنه مات على الكفر هو وامرأته ففي ذلك معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم وامرأته خنقها الله تعالى بحبلها كما مرّ، وأبو لهب رماه الله تعالى بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال فمات، وأقام ثلاثة أيام لا يدفن حتى أنتن ثم إنّ ولده غسله بالماء قذفًا من بعيد مخافة عدوى العدسة وكانت قريش تتقيها كما تتقي الطاعون، ثم احتملوه إلى أعلى مكة وأسندوه إلى جدار ثم رضموا عليه الحجارة.
وقيل: إنّ الله تعالى يدخل امرأته جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الحطب، ولا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من أصل شجرة الزقوم، أو من الضريع وفي جيدها حبل من مسد من سلاسل النار، كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه.
وقول البيضاوي تبعًا للزمخشري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة تبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة». حديث موضوع. اهـ.